فصل: تفسير الآيات (10- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (10- 11):

{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}
قوله عز وجل: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ} أي إذا فرغ من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} يعني الرزق وهذا أمر إباحة، كقوله: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة- 2] قال ابن عباس: إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد وإن شئت فصلِّ إلى العصر، وقيل: فانتشروا في الأرض ليس لطلب الدنيا ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله. وقال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول: {وابتغوا من فضل الله} هو طلب العلم.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قوله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} الآية، أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا خالد بن عبد الله أخبرنا حصين عن سالم بن أبي الجعد وعن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم فثار الناس إلا اثني عشر رجلا فأنزل الله: {وإذا رأوا تجارةً أو لهوًا انفضوا إليها}.
ويحتج بهذا الحديث من يرى إقامة الجمعة باثني عشر رجلا. وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة حتى يكون حجة لاشتراط هذا العدد. وقال ابن عباس في رواية الكلبي: لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط.
وقال الحسن وأبو مالك: أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة زيت من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارًا».
وقال مقاتل: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة، وكان إذا قدم لم تبق بالمدينة عاتق إلا أتته، وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبُرِّ وغيره، فينزل عند أحجار الزيت، وهو مكان في سوق المدينة، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كم بقي في المسجد؟» فقالوا: اثنا عشر رجلا وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا هؤلاء لسوّمت لهم الحجارة من السماء» فأنزل الله هذه الآية وأراد باللهو الطبل.
وقيل: كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطبل والتصفيق. وقوله: {انفضوا إليها} رد الكناية إلى التجارة لأنها أهم. وقال علقمة: سئل عبد الله بن عمر: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائمًا أو قاعدًا؟ قال: أما تقرأ {وتركوك قائمًا}.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن محمد، أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائمًا يفصل بينهما بجلوس.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا أبو الأحوص، عن سماك عن جابر بن سمرة قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكِّر الناس. وبهذا الإسناد عن جابر بن سمرة قال: كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا والخطبة فريضة في صلاة الجمعة، ويجب أن يخطب قائمًا خطبتين، وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة: أن يحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله، هذه الثلاثة فرض في الخطبتين جميعًا ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن، ويدعو للمؤمنين في الثانية، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لا تصح جمعته عند الشافعي وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه. وهذا القدر لا يقع عليه اسم الخطبة، وهو مأمور بالخطبة.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا عبد الله بن يوسف بن محمد بن مامويه، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة، حدثنا الحسن بن الصباح الزعفراني، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع أن مروان استخلف أبا هريرة على المدينة، فصلَّى بهم أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الثانية: {إذا جاءك المنافقون} [المنافقون- 1] فقال عبيد الله: فلما انصرفنا مشيت إلى جنبه فقلت له: لقد قرأت بسورتين سمعت علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الصلاة؟ فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن ضمرة بن سعيد المازني عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة؟ فقال: كان يقرأ بـ {هل أتاك حديث الغاشية}.
أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس المحبوبي، حدثنا أبو عيسى حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و{هل أتاك حديث الغاشية} وربما اجتمع في يوم واحد فيقرأ بهما.
ولجواز الجمعة خمس شرائط: الوقت وهو: وقت الظهر ما بين زوال الشمس إلى دخول وقت العصر، والعدد والإمام والخطبة ودار الإقامة فإذا فقد شرط من هذه الخمسة يجب أن يصلوها ظهرا.
ولا يجوز للإمام أن يبتدئ الخطبة قبل اجتماع العدد، وهو عدد الأربعين عند الشافعي فلو اجتمعوا وخطب بهم ثم انفضوا قبل افتتاح الصلاة أو انتقص واحد من العدد لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة، بل يصلي الظهر، ولو افتتح بهم الصلاة ثم انفضُّوا فأصح أقوال الشافعي أن بقاء الأربعين شرط إلى آخر الصلاة، كما أن بقاء الوقت شرط إلى آخر الصلاة فلو انتقص واحد منهم قبل أن يسلِّم الإمام يجب على الباقين أن يصلُّوها أربعًا. وفيه قول آخر: إن بقي معه اثنان أتمها جمعة. وقيل: إن بقي معه واحد أتمها جمعة، وعند المزني إذا نقصوا بعد ما صلى الإمام بهم ركعة أتمها جمعة، وإن بقي وحده فإن كان في الركعة الأولى يتمها أربعًا وإن انتقص من العدد واحد، وبه قال أبو حنيفة في العدد الذي شرطه كالمسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فإذا سلم الإمام أتمها جمعة وإن أدرك أقل من ركعة أتمها أربعًا.
قوله عز وجل: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} أي ما عند الله من الثواب على الصلاة والثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من اللهو ومن التجارة {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لأنه موجد الأرزاق فإياه فاسئلوا ومنه فاطلبوا.

.سورة المنافقون:

مدنية.

.تفسير الآيات (1- 4):

{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يؤْفَكُونَ (4)}
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} يعني عبدَ الله بن أبي بن سلول وأصحابَه، {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا. {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} سترة، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} منعوا الناس عن الجهاد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا} أقروا باللسان إذا رأوا المؤمنين، {ثُمَّ كَفَرُوا} إذا خلوا إلى المشركين، {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} بالكفر، {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} الإيمان. {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} يعني أن لهم أجسامًا ومناظر، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} فتحسب أنه صدق، قال عبد الله بن عباس: كان عبد الله بن أبي جسيمًا فصيحًا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله. {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام. قرأ أبو عمرو والكسائي: {خُشْب} بسكون الشين، وقرأ الباقون بضمها.
{مُسَنَّدَةٌ} ممالة إلى جدار، من قولهم: أسندت الشيء، إذا أَمَلْتُه، والتثقيل للتكثير، وأراد أنها ليست بأشجار تثمر، ولكنها خشب مسندة إلى حائط، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي لا يسمعون صوتًا في العسكر بأن نادى منادٍ أو انفلتت دابة وأنشدت ضالة، إلا ظنوا- من جبنهم وسوء ظنهم- أنهم يرادون بذلك، وظنوا أنهم قد اتوا، لما في قلوبهم من الرعب.
وقيل: ذلك لكونهم على وجل من أن ينزل الله فيهم أمرا يهتك أستارهم ويبيح دماءهم ثم قال: {هُمُ الْعَدُوُّ} وهذا ابتداء وخبره، {فَاحْذَرْهُمْ} ولا تأمنهم، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} لعنهم الله {أَنَّى يؤْفَكُونَ} يصرفون عن الحق.

.تفسير الآيات (5- 6):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} أي عطفوا وأعرضُوا بوجوههم رغبة عن الاستغفار. قرأ نافع ويعقوب {لَووَا} بالتخفيف، وقرأ الآخرون بالتشديد، لأنهم فعلوه مرة بعد مرة.
{وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} يعرضون عما دُعُوا إليه، {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} متكبرون عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُم} يا محمد، {أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ذكر محمد بن إسحاق وغيره عن جماعة، من أصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَلَغُه: أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المُرَيْسيع من ناحية قُدَيْد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليهم فبينما الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له جهجاه بن سعيد الغفاري يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبرة الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج، على ذلك الماء فاقتتلا فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار! وصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين! وأعان جهجاهًا الغفاريَّ رجلٌ من المهاجرين يقال له جُعال، وكان فقيرًا، فغضب عبدُ الله بن أبيٍّ ابنُ سلولَ وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حديث السن، فقال ابن أُبيّ: أفعَلوها؟ فقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مَثَلُنا ومثلُهم إلا كما قال القائل: سِّمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذَّل. يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولتحولوا إلى غير بلادكم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضُّوا من حول محمد، فقال زيد بن أرقم: أنت- والله- الذليل القليل المبغض في قومك، محمد صلى الله عليه وسلم في عزّ من الرحمن ومودة من المسلمين، فقال عبد الله بن أبي: اسكت، فإنما كنت ألعب. قال: فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد فراغه من الغدو، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله قال: كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ ولكن أذّن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها فارتحل الناس.
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيٍّ فأتاه فقال: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني؟ فقال عبد الله: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئًا من ذلك، وإن زيدًا لكاذبٌ، وكان عبد الله في قومه شريفًا عظيمًا، فقال من حضر من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله. فَعَذَره النبي صلى الله عليه وسلم وفَشَتِ المَلامةُ في الأنصار لزيد، وكذَّبوه، وقال له عمه وكان زيد معه ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناسُ مَقَتُوك، وكان زيد يساير النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيا بعد ذلك أن يدنو من النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما استقلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوما بلغك ما قال صاحبكم عبد الله بن أبي؟ قال: وما قال؟ قال: زعم إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل. فقال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكًا.
وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي، لما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فَمُرْني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمتِ الخزرج ما كان بها رجلٌ أبرَّ بوالديه مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.
قالوا: وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نيامًا. وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي. ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بِالحجاز فُوَيْقَ النَّقِيع، يقال له نقعًا فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوَّفوها وضلت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك ليلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تخافوا فإنما هبَّتْ لموت عظيم من عظماء الكفار توفي بالمدينة، قيل: من هو، قال: رفاعة بن زيد بن التابوت، فقال رجل من المنافقين: كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته؟ ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي! فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة، وأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقال: ما أزعم أني أعلم الغيب وما أعلمه، ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي، هي في الشِّعب قد تعلق زمامها بشجرة فخرجوا يسعَوْن قِبَل الشعب فإذا هي كما قال، فجاءوا بها وآمن ذلك المنافق.
فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات ذلك اليوم، وكان من عظماء اليهود وكهفًا للمنافقين، فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال زيد بن أرقم: جلست في البيت لما بي من الهمِّ والحياء، فأنزل الله تعالى سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله. فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد وقال: «يا زيد إن الله صدقك وأوفى بأذنك».
وكان عبد الله بن أُبيّ بقرب المدينة، فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله حتى أناخ على مجامع طرق المدينة، فلما جاء عبد الله بن أبي قال: وراءك، قال: مالك ويلك؟ قال: لا والله لا تدخلها أبدًا إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل، فشكا عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع ابنه، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خلِّ عنه حتى يدخل، فقال: أما إذا جاء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنعم، فدخل فلم يلبث إلا أيامًا قلائل حتى اشتكى ومات.
قالوا: فلما نزلت الآية وبان كذب عبد الله بن أبي قيل له: يا أبا حباب إنه قد نزل فيك أي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أؤمن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فأنزل الله تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم} الآية. ونزل: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا}.